الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} يقول الحق جل جلاله: {وإِذا رَأَوْكَ} أي: مشركو مكة {إِن}؛ ما {يتخذونَك إلا هُزُواً} أي: مهزوءاً بك، أو محل هزء، حال كونهم قائلين: {أهذا الذي بعثَ الله رسولاً}، ورسولاً، حال من العائد المحذوف، أي: هذا الذي بعثه الله رسولاً، والإشارة؛ للاستحقار في اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة، مع كونهم في غاية الإنكار لهما؛ على طريق الاستهزاء، وإلا لقالوا: أبعث الله هذا رسولاً. {إن كاد لَيُضلُّنا عن آلهتنا} أي ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً، والعدول إلى الإضلال؛ لغاية ضلالتهم بادعاء أن عبادتها طريق سَوي. {لولا أن صبرنا عليها} لصرفنا عنها، وهو دليل على مجاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وإظهار المعجزات لهم، حتى شارفوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم وتقليدهم. قال تعالى: {وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذابَ} الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم، {من أضلُّ سبيلاً}، وأخطأ طريقاً. وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى يُمهل ولا يهمل. {أرأيتَ من اتخذ إلهَهُ هَواهُ} أي: أطاع هواه فيما يذر ويفعل، فصار معبوده هواه، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا الذي لا يرى معبوده إلا هواه، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى وتهديه إليها؟ يُروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر، فإذا مر بحجر أحسن منه تركه وَعَبَد الثاني. وقال الحسن: هو في كل متبع هواه. {أفأنت تكون عليه وكيلاً}؛ حفيظاً تحفظه عن متابعة هواه وعبادة ما يهواه. والفاء؛ لترتيب الإنكار على ما قبله، كأنه قيل: أَبَعْدَمَا شاهدت من غلوه في طاعة الهوى، وعتوه عن اتباع الهدى، تقهره على الإيمان، شاء أو أبى، وإنما عليك التبليغ فقط. {أم تَحْسَبُ أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون}، «أم»: منقطعة، بمعنى بل، أي: بل أتظن أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات حق السماع، أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ والأنكال؟ {إنْ هم كالأنعام} أي: ما هم، في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات، وانتفاء التأثير بما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات، إلاّ كالبهائم، التي هي غاية في الغفلة، ومَثل في الضلالة، {بل هم أضلُّ سبيلاً}؛ لأن البهائم تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعاهدها وتعرف من يُحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وتأوي إلى معاطنها، وهؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، الذي هو أعدى عدوهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أقبح المضار والمعاطب ولا يهتدون الحق الذي هو الشرع الهني، والمورد العذب الروي، ولأنها، إن تعتقد حقاً مستتبعاً لاكتساب الخير، لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقتراب الشر، بخلاف هؤلاء؛ حيث مهَّدوا قواعد الباطل، وفرعوا أحكام الشرور، ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة عليها، لا تتعدى إلى أحد، وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفساد، وصد الناس عن سنَن السداد، وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، لعدم القوى العقلية، فلا تقصير من قبلها، ولا ذم، وهؤلاء متمكنون من القوى العقلية مضيعون الفطرة الأصلية، مستحقون بذلك أعظم العقاب، وأشد النكال. ه. وأصله للبيضاوي. الإشارة: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره من أعظم ما يُقرب إلى الله، ويوصل إلى رضوان الله، ويدخل العبد على مولاه؛ لأنه باب الله الأعظم، والواسطة الكبرى بين الله وبين عباده فمن عظَّمه صلى الله عليه وسلم وبجّله وخدمه أتم الخدمة، أدخله الحضرة، على التوقير والتعظيم والهيبة والإجلال. ومن حاد عن متابعتة فقد أتى البيت من غير بابه؛ كمن دخل حضرة الملك بالتسور، فيستحق القتل والطرد والبُعد. وإدخاله على الله: دلالته على من يعرفه بالله، وقد يوصله بلا واسطة، لكنه نادر. ومن أهمل هذا الجانب واستصغره طرده الله وأبعده، وانسحب عليه قوله: {وإِذا رأوك إِن يتخذونك إلا هزوا} وكا ممن اتخذ إلهه هواه، وكان كالبهائم، أو أضل؛ لأن من اتبع الواسطة كان هواه تابعاً لما جاء من عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هَواه تَبِعاً لما جئتُ به» وبالله التوفيق.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} يقول الحق جل جلاله: {ألم تَر} يامحمد {إلى رَبّكَ} أي: ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده. والتعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، لتشريفه وتبجيله، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته، {كيف مَدَّ الظِّلَّ} أي: بسطه حتى عمَّ الأرض، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس، في قول الجمهور؛ لأنه ظل ممدود، لا شمس معه ولا ظلمة، فهو شبيه بظل الجنة. وقيل: مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار؛ من شجر، أو مدر، أو إنسان، ثم قبضها وردها إلى المشرق. {ولو شاء لجعله ساكناً} أي: دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس، أو: لا ينتقص بسيرها. {ثم جعلنا الشمسَ عليه} أي: على الظل {دليلاً}، لأنه بالشمس يُعرف الظل، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل، ولا ظهر له أثر، فالأشياء تُعرف بأضدادها. {ثم قبضناه} أي: أخذنا ذلك الظل الممدود {إلينا}؛ إلى حيث إرادتنا {قَبْضاً يسيراً} أي: على مهل قليلاً قليلاً، حسب ارتفاع دليله، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها. {وهو الذي جعلَ لكم الليلَ لباساً} أي: جعل الظلام الساتر كاللباس {والنوم سباتاً} أي: راحة لأبدانكم، وقطعاً لأعمالكم. والسبت: القطع، والنائم مسبوت؛ لأنه انقطع عمله وحركته، وقيل السبات: الموت، والميت مسبوت؛ لأنه مقطوع الحياة، كقوله: {وَهُوَ الذى يَتَوَفَّاكُم باليل} [الأنعام: 60]. ويعضده ذكر النشور في مقابلته بقوله: {وجعل النهار نُشُوراً} أي: ذا نشور، أي: انبعاث من النوم، كنشور الميت، أو: ينشر فيه الخلق للمعاش. وهذه الآية، مع دلالتها على قدرته تعالى، فيها إظهار لنعمته تعالى؛ لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي النوم واليقظة- المشبهين بالموت والبعث- عبرة للمعتبرين. قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر. {وهو الذي أرسل الرياحَ}، وعن المكي بالإفراد، {نشراً}: جمع نشور، أي: أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر، {بين يدي رحمته} أي: أرسلها قدام المطر، لأنه ريح، ثم سحاب، ثم مطر. وقرأ عاصم الباء، أي: مبشرات بالمطر. {وأنزلنا من السماء ماءً طَهُوراً} أي: مطهراً بالغاً في التطهير، كقوله: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال: 11] وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء والوقود، لِمَا يتوضأ به ويوقد به. وقيل: طهور في نفسه، مبالغة في الطاهرية، فالطهور في العربية يكون صفة، كما تقول: ماء طهور، واسماً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «التراب طهور، والمؤمن طهور» وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة، كقولك: تطهرت طهوراً حسناً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بطهور» ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك؛ ليكون أبلغ في النعمة، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته، أي: أنزلناه كذلك. {لنُحيي به} أي: بالمطر الطهور {بلدةً ميتاً} بالجدب والقحط، فحييت بالنبات والعشب. والتذكير؛ لأن البلدة بمعنى البلد، والمراد به: القطعة من الأرض عامرة أو غامرة. {ونُسْقِيَهُ} أي: ذلك الماء الطهور، عند جريانه في الأودية، أو اجتماعه في الآبار والحياض، {مما خلقنا أنعاماً وأَنَاسِيَّ كثيراً} أي: نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً. والأناسي: جمع أُنْسِيّ، ككرسي وكراسي. وقيل: جمع إنسان، وأصله: أناسين، وأبدلت النون ياءً، وأدغمت التي قبلها فيها. وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي؛ لأن حياتها سبب لحياتهما. وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان؛ لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها. {ولقد صرَّفناه} أي: هذا القول، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة، في القرآن وغيره من الكتب السماوية، أو: صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى. أو صرفناه بينهم وابلاً، وطَلاًّ، ورذاذاً وديمة. وقيل: التصريف راجع إلى الريح. وقيل: إلى القرآن المتقدم في قوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن} [الفرقان: 32] ويعضده: {وَجَاهِدْهُم بِهِ} [الفرقان: 52]. وقوله: {بينهم} أي: بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين، {ليذَّكَّرُوا}؛ ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه، أو: ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته، {فأبَى أكثرُ الناس} ممن سلف وخلف {إلا كفوراً} أي: جُحُداً لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها، وربما نسبوها إلى غير خالقها، فيقولون: مُطرنا بنَوْء كذا. وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ، فَأَما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ؛ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بالكَواكِب. وأما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فهو كافِرُ بِي، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ» فمن نسب الأمطار إلى الأنواء، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله، فقد كفر، ومن اعتقد أن الله خالقها، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها، لم يكفر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق، فجعلها في سماء الدنيا، في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» والله تعالى أعلم. الإشارة: الكون كله، من جهة حسه الظاهر، ظل آفل، وضباب حائل، لا وجود له من ذاته، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات، من بحر المعاني الأزلية، كنسبة ظلال الأشجار في البحار. فظلال الأشجار في البحار لا تمنع السفن من التسيار فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض في بحار المعاني الأزلية الجبروتية، بل تخرقها، وتخوض في بحار الأحدية الجبروتية، الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعلوية والسفلية، ولا يحجبها عن الله ظل شيء من الكائنات، وإليه الإشارة قوله: ألم تر، أيها العارف، إلى ربك كيف مد الظل، أي: مد ظل الكائنات؛ ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة، التي أراد فتحها، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب، وتصير عارفة بالله. ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي: على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي: ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية. وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي: ستراً ورداء من الهفوات؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم- أي: الزوال- سُباتاً، أي: راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم: «ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً». وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي: معرفته؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي: روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى: {ولقد صرفناه بينهم}؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق. ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط. وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار، لكن خُولف ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم؛ تشريفاً لقدره، وتعظيماً لأمره.
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} يقول الحق جل جلاله: {ولو شئنا لبَعَثْنَا في كل قريةٍ نذيراً} أي: رسولاً يُنذر أهلها، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر، فيخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نشأ ذلك؛ فحملناك ثقل نذارة جميع القرى، حسبما نطق به قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1]؛ لتستوجب بذلك الدرجة القصوى، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء، {فلا تُطع الكافرين} فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء، وكأنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن المداراة معهم، والتقصير في الدعوة؛ لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق. قال القشيري: {فلا تُطع الكافرين} أي: كُنْ قائماً بحقِّنا، من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا، أو مبالاةٌ بسوانا، فإنا نَعْصِمُكَ بكل وجهٍ، ولا نرفع عنكَ ظِلَّ عنايتنا بحالٍ. ه. {وجاهِدْهُمْ به} أي: بالقرآن؛ بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ، وذكر أحوال الأمم الهالكة، {جهاداً كبيراً}؛ عظيماً موقعه عند الله؛ لما يتحمل فيه من المشاق، فإن دعوة كُلِّ العالمين، على الوجه المذكور، جهاد كبير، أو: (جاهدهم به)؛ بالشدة والعنف؛ من غير مداراة ولا ملاينة، فَكِبَرُ الجهادِ هو ملابسته بالشدة والعنف، كقوله: {جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. والله تعالى أعلم. الإشارة: الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود، فقلَّ أن يجتمع منهم، في العصر الواحد، ثلاثة أو أربعة في الإقليم الكبير؛ لأن الله تعالى لم يشأ ذلك بحكمته، قال تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً}، وكلما قَلَّ عددهم، وعظُم الانتفاع بهم، عظُم قدرهم، فينبغي للمذكِّر أن يُذكِّر كلاًّ بما يليق به، فأهل العصيان ينبغي له أن يشدد في الإنذار، ولا يداريهم ولا يداهنهم. وأهل الطاعة ينبغي له أن يُبشِّرهم ويسهل الأمر عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّرُوا»، فيحتاج المذكِّر إلى فطنة وفراسة، حتى يعطي كل واحد ما يليق به، ويخاطب كل واحد بما يطيقه. وبالله التوفيق.
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} قلت: أصل المرج: الخلط والإرسال، ومنه قوله تعالى: {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كيف بك يا عبدَ اللهِ إذا كنت في حُثَالةٍ من الناس، قد مرجتْ عهودهُمْ وأماناتهمْ، وصاروا هكذا، وشَبَّكَ بين أصابعه». يقال: مرج دابته وأمرجتها: إذا أرسلتها في المرعى. ومنه قيل للروضة: مرج. يقول الحق جل جلاله: {وهو الذي مَرَجَ البحرين} أي: أرسلهما، وخَلاَّهُمَا متجاورَيْن متلاصقَيْن غير متمازجَيْن. {هذا عذبٌ فُرَاتٌ} أي شديد العذوبة، قامع للعطش؛ لعذوبته، أي: برودته، {وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ}: بليغ الملوحة، أو هذا عذب لا ملوحة فيه، وهذا ملح لا عذوبة فيه، مع اتحاد جنسهما، {وجعل بينهما برزخاً}؛ حائلاً بقدرته، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج؛ لئلا يختلطا، {وحِجْراً محجوراً} أي: وستراً ممنوعاً عن الأعين، كقوله: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45]، أي: جعل بينهما حاجزاً خفياً؛ لئلا يغلب أحدهما الآخر، أو: سداً ممنوعاً يمنعهما فلا يبغيان، ولا يفسد الملحُ العذبَ، ولو خَلاَّ الله تعالى البحر الملح، ولم يلجمه بقدرته، لفاض على الدنيا، واختلط مع العذب وأفسده. ثم ذكر دليلاً آخر، فقال: {وهو الذي خلقَ من الماءِ} أي: النطفة {بَشَراً}؛ إنساناً {فجعله نسباً وصِهْراً}. قسم البشر قسمين: ذوي نسب، أي ذكوراً، ينسب إليهم، فيقال: فلان ابن فلان. وذوات صهر، أي: إناثاً يصاهر بهن، فهو كقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39]. قال ابن جزي: والنسب: أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ، قَرُبَ ذلك أو بَعُدَ. والصهر: هو الاختلاط بالتناكح. ه. وعن علي رضي الله عنه: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر: ما يحل نكاحه. وعن الضحاك ومقاتل: النسب سبعة، والصهر خمسة، ثم قرأ هذه الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. فالسبعة الأولى: نسب، والباقي: صهر. ه. والأصح أن التسعة نسب، والباقي صهر. {وكان ربك قديراً}؛ حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً ذا نوعين، ذكراً وأنثى، أو: حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفةٍ وطباعٍ متباعدة، وجعله قسمين متقابلين؛ ذكراً وأنثى. {ويعبدون من دون الله}؛ بعد هذا البرهان الواضح على توحيده، {ما لا ينفعُهم} إن عبدوه، {ولا يضرُّهم} إن تركوه، وهم الأصنام، أو كل من عبد من دون الله؛ إذ المخلوق كله عاجز، {وكان الكافر على ربه}، الذي ذكر آثار قدرته ودلائل ربوبيته، {ظَهِيراً}؛ مُعِيناً، يظاهر الشيطان ويعينه على الكفر والعصيان. والمعنى: أن الكافر؛ بعبادة الصنم، يتابع الشيطان ويُعاونه على معصية الرحمن. وقال ابن عرفة: أي: مظاهراً لأعداء الله على أولياء الله، فتلك إعانته. ه. الإشارة: مَرج البحرين؛ بحر الشريعة وبحر الحقيقة، فبحر الشريعة عذب فرات؛ لأنه سهل المدارك، يناله الخاص والعام، وبحر الحقيقة ملح أجاج؛ لأنه لا يناله إلا من ذاق مرارة فطام النفس من هواها، ومجاهدتها في ترك مُنَاها، حتى تموت ثم تحيا، فحينئذٍ تتلذذ بمشاهدة مولاها، وتطيب حياتها في أخراها ودنياها. فبحر الحقيقة صعب المرام، لا يركبه إلا الشجعان، وفي ذلك يقول صاحب العينية رضي الله عنه: وَإِيَّاك جَزْعاً لا يَهُولُكَ أَمْرُهَا *** فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ والبرزخ الذي جعل بينهما: نور العقل، يميز بين محل الشرائع ومحل الحقائق، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)} يقول الحق جل جلاله: {وما أرسلناك} يامحمد {إلا مبشراً} للمؤمنين {ونذيراً} للكافرين، {قل ما أسألكم عليه}؛ على تبليغ الرسالة {من أجْرٍ} من جهتكم، فتقولون: أن يتخذ إلى ربه طريقاً تُوصله إليه، بإنفاقِهِ مَالَهُ في سبيل الله، فليفعل وليعطه لغيره. وقيل: الاستثناء متصل، أي: لا أسألكم عليه أجراً، إلا فعل من يريد أن يتقرب إليه تعالى، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة، حسبما أدعوكم إليهما. فَصوّر ذلك بصورة الأجر؛ من حيث أنه مقصود الإتيان به، واستثناه منه؛ قطعاً لشائبة الطمع، وإظهاراً لغاية الشفقة عليهم، حيث جعل ذلك، مع كون نفعه عائداً إليهم، عائداً إليه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. الإشارة: العلماء بالله خلفاء الرسل، فما أظهرهم الله في كل زمان إلا ليذكروا الناس ويعظوهم ويبشروهم ويُنذروهم، من غير عوض ولا طمع، فإن تعلقت همتهم بشيء من عرض الدنيا؛ من أيدي الناس، كسَف ذلك نورهم، ونقص نفعهم، وقَلَّ الاهتداء على أيديهم، وقدم تقدم هذا مراراً. وبالله التوفيق.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} يقول الحق جل جلاله: {وتوكَّلْ على الحيّ الذي لا يموتُ} في الاستكفاء عن شرورهم، والاغتناء عن أجورهم، أي: ثق به؛ فإنه يكفيك عن الطمع فيمن يموت، فلا تطلب على تبليغك من مخلوق أجراً، فإن الله كافيك. قرأها بعض الصالحين فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق. {وسَبَّحْ} أي: ونزهه أن يكل إلى غيره مَنْ تَوَكَّلَ عليه، {بحمده} أي: بتوفيقه الذي يوجب الحمد، أو: قل سبحان الله وبحمده، أو: نزهه عن صفات النقصان، مثنياً عليه بنعوت الكمال، طالباً لمزيد الإنعام، {وكفى به بذنوب عباده خبيراً} أي: كفى الله خبيراً بذنوب عباده، ما ظهر منها وما بطن، يعني: أنه خبير بأحوالهم، كافٍ في جزاء أعمالهم. {الذي خلق السموات والأرضَ وما بينهما في ستة أيام} أي: في مدة مقدارها ستة أيام؛ إذْ لم يكن ليل ولا نهار. وعن مجاهد: أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، وإنما خلقها في هذه المدة، وهو قادر على خلقها في لحظة، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت. {ثم استوى على العرش} استواء يليق به، {الرحمنُ} أي: هو الرحمن، أو: فاعل استوى، أي: استوى الرحمن، برحمانيته على العرش وما احتوى عليه. وراجع ما تقدم في الأعراف {فاسألْ به خبيراً} أي: سل عنه رجلاً عارفاً خبيراً به، يُخبرك برحمانيته. وكانوا ينكرون اسم الرحمن، ويقولون: لا نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة، يعنون: مسيلمة الكذاب، وكان يقال له: رحمن اليمامة؛ غُلُوًّا فيه، فأمر نبيه أن يسأل من له خبرة وعلم بالكتب المتقدمة عن اسم الرحمن، فإنه مذكور في الكتب المتقدمة. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: والظاهر: أن الخبير هو الله، أي: أسأل الله الخبير بالأشياء، الأعلم بخفاياها، والتقدير: فسل بسؤالك إياه خبيراً. وإنما استظهرنا هذا القول؛ لأن المأمور بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وَتَجِلُّ رتبته عن سؤال غير ربه. والمراد: فسل الله الخبير بالرحمن ووصفه. انظر تمام كلامه. {وإِذا قيل لهم} أي: إذا قال محمد للمشركين: {اسجدوا للرحمن}؛ صَلّوا له، أو: اخضعوا، {قالوا وما الرحمنُ} أي: لا نعرف الرحمن فنسجد له، قالوا ذلك: إما لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى، أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى. {أنسجُدُ لما تأمرنا} أي: للذي تأمرنا بالسجود له، أو لأمرك بالسجود له من غير علم منا به. وهو منهم عناد؛ لأن معناه في اللغة: ذو الرحمة التي لا غاية لها؛ لأن فَعْلاَنَ يدل على المبالغة، وهم من أهل اللغة. {وزادهم نُفُوراً} أي: زادهم الأمر بالسجود للرحمن تباعداً عن الإيمان ونفوراً عنه. وبالله التوفيق. الإشارة: قد تقدم الكلام على التوكل في مواضع. وللقشيري هنا كلام، وملخصه باختصار: أن التوكل: تفويضُ الأمر إلى الله سبحانه، وأصله: عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله، ولا يقدر أحدٌ على إيجاد شيء أو دفعه، فإذا عَرَفَ العبدُ هذا، وعلم أن مراد الله لا يرتفع ولا يدفع، حصل له التوكل. وهذا القدر فرض، وهو من شرائط الإيمان، قال الله تعالى: {وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وما زاد على هذا القَدْرِ؛ من سكون القلب، وطمأنينته، وزوال الانزعاج والاضطراب، فهو من أحوال التوكل ومقاماته فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات، فأول رتبة فيه: أن يكتفي بما في يده، ولا يطلب الزيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. وتسمى هذه الحالة: القناعة، فيقنع بالحاصل، ولا يستزيد ما ليس بحاصل- يعني: مع وجود الأسباب- ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب، وهو مقام التجريد، وهم متباينون في الرتبة: واحد يكتفي بوعده، لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه، فسكن قلبه عند فقد الأسباب؛ ثقةً منه بوعد ربه، وقد قيل: إن التوكل: سكون القلب بضمان الربِّ، ويقال: سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال: الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه. وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله، فيشتغل بمولاه، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان، فيكِلُ أمره إلى الله، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه: التفويض، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه، ولا يختار حالاً على حال، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ، فهي رتبة الرضا، ويحصل له في هذه الحالة، من فوائد الرضا ومطالعته، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود. وبعد هذا: الموافقة؛ وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا- ويعدُّون ذلك حجاباً- كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً. ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود، والاستهلاك، والوجود، والاصطلام، والفناء- وهذا هو عين التوحيد الخاص- فعند ذلك لا أنس، ولا هيبة، ولا لذة، ولا راحة، ولا وحشة، ولا آفة. يعني: غيب المقامات بلذاتها وراحتها، عند تحقق الفناء، ثم قال: هذا بيان ترتيبهم، فأمّا ما دون ذلك؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين، على تباين شرفهم، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى. وقال أيضاً: ويقال: التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته: فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء، فالواجب، في الأسباب الدنيوية، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم، والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله، فهو متمن معلول الحال، ممكورٌ مُسْتَدْرَج، بل يجب أن يبذل جهدَه، ويستفرغ وسعَه، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه، ثم يُحسن الظنّ بربِّه. ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب؛ فإن ذلك- إذا حَصَلَ- فالوقت غالبٌ، وهو أحد ما قيل في قولهم: الوقت سيف. ه.
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} يقول الحق جل جلاله: {تبارك} أي: تعاظم {الذي جعل في السماء بُروجاً} وهي البروج الاثنا عشر: الحَمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وهي منازل الكواكب السبعة السيارة، لكل كوكب بيتان، يقوي حاله فيهما، وللشمس بيت، وللقمر بيت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زُحل. وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع ليصيب كل واحدة منها ثلاثة بروج، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. سميت بالبروج التي هي القصور العالية؛ لأنها، لهذه الكواكب، كالمنازل الرفيعة لسكانها. واعتبر بزيادة ابحر عند زيادة القمر ونقصه عند نقصه، فإن بيت القمر- وهو السرطان- مائي، وذلك من إمداد الأسماء لا بالطبع. وتذكر: «وبالاسم الذي وضعته على الليل فَأَظْلَمَ...» إلخ. قاله في الحاشية. واشتقاق البروج من التبرج، الذي هو الظهور؛ لظهورها، ولذلك قال الحسن وقتادة ومجاهد: البروج: النجوم الكبار؛ لظُهورها. {وجعل فيها سِرَاجاً} أي: الشمس، لقوله تعالى: {وَجَعَلَ اْلشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح: 16]. وقرأ الأَخَوَان: «سُرُجاً». ويراد: النجوم الكبار والشمس، {وقمراً منيراً} أي: مضيئاً بالليل. {وهو الذي جعل اليللَ والنهارَ خِلْفةً} أي: ذو خلفة؛ يخلف كل واحد منهما الآخر، بأن يقوم مقامه، فيما ينبغي أن يعمل فيه، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال قتادة: فأروا الله تعالى من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان بكل موعود. وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فاتتني الصلاةُ الليلةَ، فقال: أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة {لمن أراد أن يذَّكَّر}. ه. أي: يتذكر آلاء الله- عز وجل-، ويتفكر في بدائع صنعه فيعلم أنه لا بد له من صانع حكيم. وقرأ حمزة وخلف: «يَذْكُرَ» أي: يذكر الله في قضاء ما فاته في أحدهما، {أو أراد شكوراً} أي: شكر نعمة ربه عليه فيهما، فيجتهد في عمارتهما بالطاعة؛ شكراً. وبالله التوفيق. الإشارة: تبارك الذي جعل في سماء القلوب أو الأرواح بروجاً؛ منازل ينزلها السائر، ثم يرحل عنها، وهي مقامات اليقين؛ كالخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضا، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة، والمعاينة. وجعل فيها سراجاً، أي: شمس العرفان لأهل الإحسان، وقمراً منيراً، وهو توحيد البرهان لأهل الإيمان. وهو الذي جعل ليل القبض ونهار البسط خِلْفةً، يخلف أحدهما الآخر، لمن أراد أن يذكر في ليل القبض، ويشكر في نهار البسط. والله تعالى أعلم.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ...}. قلت: و(عباد): مبتدأ، و(الذين) وما بعده: خبر. وقيل: (أولئك يُجزون). و (هوناً): حال، أو: صفة، أي: يمشون هينين، أو مشياً هونا. يقول الحق جل جلاله: {وعبادُ الرحمن} أي: خواصه الذين يسجدون ويخضعون للرحمن، {الذين يمشون على الأرض هوناً} أي: بسكينة وتواضع ووقار، قال الحسن: يمشون حُلَمَاء علماء مثل الأنبياء، لا يؤذون الذر، في سكون وتواضع وخشوع، وهو ضد المختال الفخور المَرِح، الذي يختال في مشيه. وقال ابن الحنفية: أصحاب وقار وعفة، لا يسفهون، وإن سفهم عليهم حلَموا. و«الهَوْن» في اللغة: الرفق واللين. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا. وأبْغِض بَغِيضَكَ هَوْناً مَا، عسى أنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا». {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي: السفهاء بما يكرهون، {قالوا سلاماً}؛ سداداً من القول، يَسلمون فيه من الإيذاء والإثم والخَنا. أو: سلمنا منكم سلاماً، أو: سلموا عليهم سلاماً، دليله قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55]، ثم قالوا: {سلام عليكم}. قيل: نسختها آية القتال، وفيه نظر؛ فإن الإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة، فلا ينسخ. وكان الحسن إذا تلا الآيتين قال: هذا وصف نهارهم، ثم قال تعالى: {والذين يبيتون لربهم سُجّداً وقياماً}: هذا وصف ليلهم. قال ابن عباس: من صلى لله تعالى ركعتين، أو أكثر، بعد العشاء، فقد بات لله تعالى ساجداً وقائماً. وقيل: ما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره. {والذين يقولون ربنا اصرفْ عنا عذابَ جهنم إن عذابها كان غَرَاماً}؛ هلاكاً لازماً. ومنه: الغريم؛ لملازمته غريمه، وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، وعقّبه بذكر دعوتهم هُنا؛ إيذاناً بأنهم، مع اجتهادهم، خائفين مبتهلين إلى الله في صرف العذاب عنهم {إنها ساءت مستقراً ومُقاماً}، أي: إن جهنم قَبُحَت مستقراً ومقاماً لهم. و«ساءت»: في حكم «بئست»، وفيها ضمير مبهم يفسره {مستقراً}. والمخصوص بالذم: محذوف، أي: ساءت مستقراً ومقاماً هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم «إن». {والذين إذا أنفقوا لم يُسْرفُوا}؛ لم يجاوزوا الحد في النفقة. وعن ابن عباس: لم ينفقوا في المعاصي. فالإسراف: مجاوزة حد الأمر، لا مجاوزة القدر. وسمع رجلٌ رجلاً يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير. وقال صلى الله عليه وسلم: «من منع حقاً فقد قتر، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف» {ولم يَقْتُرُوا}، القتر والإقتار والتقتير: التضييق. وقرئ بالجميع، {وكان بين ذلك قواماً} أي: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواماً؛ عدلاً بينهما. فالقوام: العدل بين الشيئين. قال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يخلو به، لقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الآية. وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون الطعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة. ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم، ويُكِنُّهم من الحرّ والبرد. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كفى بالمرء سَرَفاً إلا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله. ومثله في سنن ابن ماجه؛ مرفوعاً. قال القشيري: الإسراف: أن ينفق في الهوى ونصيب النفْس، ولو فلساً، وأما ما كان لله فليس فيه إسراف، ولو ألفاً. والإقتارُ: ما كان ادخاراً عن الله، فأمَّا التضييقُ على النَّفْس؛ منعاً لها عن اتباع الشهوات، ولتتعود الاجتزاء باليسير، فليس بالإقتار المذموم. ه. {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} أي: لا يشركون بالله شيئاً، {ولا يقتلون النفسَ التي حرَّم الله} قتلها {إلا بالحق} بقَوَدٍ، أو رَجْمٍ، أو شِرْكٍ، أو سعي في الأرض بالفساد، {ولا يزنون} أي: لا يفعلون من هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة شيئاً، حيث كانوا مع إشراكهم به- سبحانه- مداومين على قتل النفوس المحرمة، التي من جملتها المؤودة، مُنْكَبِّينَ على الزنا، لا يرعوون عنه أصلاً، فنفَى هذه الكبائر عن عباده الصالحين؛ تعريضاً بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيره، كأنه قيل: والذين طهرهم الله مما أنتم عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «قُلْتُ: يا رَسُولَ الله، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قال: أنْ تَجْعَلَ لله نداً وَهُوَ خَلَقَكَ، قلت: ثُمَّ أيُّ؟ قال: أنْ تَقْتلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يُطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثمَّ أيُّ؟ قال: أنْ تُزَانِي بحَلِيلَة جَارِكَ» فنزلت الآية تصديقاً لذلك. الإشارة: قد تضمنت الآية أربعة أصناف من الناس على سبيل التدلي؛ الأول: الأولياء العارفون بالله، أهل التربية النبوية، ومن تعلق بهم من أهل التهذيب والتأديب، وإليهم أشار بقوله: {وعباد الرحمن..} إلخ، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت أقواماً من أمتي، ما خُلقوا بعد، وسيكونون فيما بعد اليوم، أُحبهم ويحبونني، ويتناصحون ويتباذلون، ويمشون بنور الله في الناس رويداً، في خفية وتقى، يَسلمون من الناس، ويسلم الناسُ منهم بصبرهم وحلمهم، قلوبهم بذلك إليه يَرْجِعُون، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون ضعيفهم، ويجلون كبيرهم، ويتواسَوْن بينهم، يعود غنيهُم على فقيرهم، وقويُهم على ضعيفهم، يعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم» فقال رجل من القوم: يرفقون برقيقهم؟ فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلا؛ لا رقيق لهم، وهم خدام أنفسهم، هم أكرم على الله تعالى من أن يوسع عليهم؛ لهوان الدنيا عند ربهم.» ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً...} الآية. رواه أبو برزة الأسلمي، عنه صلى الله عليه وسلم. الثاني: العباد والزهاد أهل الجد والاجتهاد، أهل الصيام والقيام، الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، أقامهم الحق تعالى لخدمته، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته. الثالث: الصالحون والأبرار، الذين يعبدون الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، ومن كان منهم له مال أنفقه في سبيل الله، من غير سرف ولا إقتار. الرابع: عامة الموحدّين من أهل اليمين، المجتنبون لكبائر الذنوب، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب. والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى وبال من فعل شيئاً من ذلك ولم يتب، فقال: {... وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً}. قلت: (يُضاعفْ) و(يخلُدْ): بدل من (يَلْقَ)؛ بدل كل من كل، عند الأزهري؛ لأن لُقِيّ الآثام هي مضاعفة العذاب، وبدل اشتمال، عند المرادي. ومن رفعهما: فعلى الاستئناف. يقول الحق جل جلاله: {ومن يَفْعَلْ ذلك} أي: ما ذكر، كما هو دأب الكفرة المذكورين، {يَلْقَ} في الآخرة {أثاماً}؛ وهو جزاء الآثام، كالوبال والنكال؛ وزْناً ومعنى، {يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامة} أضعافاً كثيرة، كما يضاعف للمؤمنين جزاء أعمالهم كذلك، {ويخْلُدْ فيه} أي: في ذلك العذاب المضاعف، {مهاناً}؛ ذليلاً حقيراً، جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني. {إلا من تابَ} من الشرك، {وآمن} بمحمد صلى الله عليه وسلم، {وعَمِلَ عملاً صالحاً} بعد توبته {فأولئك يُبَدِّلُ الله سيئاتهم حسناتٍ} أي: يوفقهم للمحاسن بعد القبائح، فيوفقهم للإيمان بعد الشرك، ولقتل الكافر بعد قتل المؤمن، وللعفة بعد الزنا، أو: يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات. ولم يُرد أن السيئة بعينها تصير حسنة، ولكن يمحوها ويعوض منها حسنة. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَيَتَمَنَّيَنَّ أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات، قيل: من؟ قال: الذين يُبدل الله سيئاتهم حسنات» {وكان الله غفوراً} للسيئات، {رحمياً} يُبَدِّلُها حسنات. {ومن تاب وعمل صالحاً فإِنه يتوب إلى الله مَتَابَا} أي: ومن تاب، وحقق التوبة بالعمل الصالح، فإنه بذلك تائب إلى الله متاباً مُرْضِياً مكفراً للخطايا. وسبب نزول الآية: أن ناساً من المشركين قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لَحَسنٌ لو تخبرنا أنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً. فنزلت: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر...} إلى قوله: {إلا من تاب...} إلخ. والظاهر أن توبة قاتل النفس بغير حق مقبولة؛ لعموم قوله: {إلا من تاب}، وهو قول الجمهور. وقيل: إن هذه منسوخة بآية النساء، وهو ضعيف والله تعالى أعلم. الإشارة: من قنع من نفسه بمجرد الإسلام والإيمان، ولم تنهضه نفسه إلى التشوف لمقام الإحسان، لا بد أن يلحقه الندم وضرب من الهوان، ولو دخل فسيح الجنان؛ لتخلفه عن أهل القرب والوصال، وفي ذلك يقول الشاعر: مَنْ فَاتَهُ مِنْكَ وَصْلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ *** ومَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} يقول الحق جل جلاله: {والذين لا يشهدون الزورَ} أي: لا يقيمون شهادة الكذب، أو لا يحضرون محاضر الكذب؛ فإنَّ مشاهدة الباطل مشاركة فيه، أي: يبعدون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطَّائين، فلا يقربونها، تَنَزُّها عن مخالطة الشر وأهله. وفي مواعظ عيسى- عليه السلام-: إياكم ومجالسَ الخطَّائين. {وإِذا مَرُّوا باللغو} أي: بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويُطرح، والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به {مَرُّوا كراماً} معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن التلوث به كقوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] وعن الباقر: إذا ذَكروا الفروج كفوا عنها، وقال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه وصفحوا. {والذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربهم} أي: قرئ عليهم القرآن، أو: وعظوا بالقرآن، {لم يَخرُّوا عليها صُمّاً وعُمْياناً}، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مجلتين لها بعيون راعية. وإنما عبّر بنفي الضد؛ تعريضاً بما يفعله الكفرة والمنافقون. {والذين يقولون ربنا هَبْ لنا من أزواجنا}، «من»: للبيان، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بُينت القرة وفُسرت بقوله: {من أزواجنا وذرياتنا} والمعنى: أن يجعلهم الله لهم قرة أعين؛ بأن يروا منهم من الطاعة والإحسان وما تقر به العين. أو للابتداء، أي: هب لنا من جهتهم ما تقر به العين، من طاعة أو صلاح. {و} هب لنا أيضاً من {ذرياتنا قُرةَ أعيُن}؛ بتوفيقهم للطاعة، ومبادرتهم للفضائل والكمالات، فإن المؤمن إذا ساعده أهله في طاعة الله تعالى وشاركوه فيها؛ يسر قلبه، وتقر عينه؛ بما شاهده من مقاربتهم له في الدين، ويكون ذلك سبباً في لحوقهم به في الجنة، حسبما وعد به قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]. وإنما قال: «أعين»؛ بلفظ القلة، دون عيون؛ لأن المراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى أعين غيرهم. والمعنى: أنهم سألوا ربهم يرزقهم أزواجاً وأعقاباً، عُمَّالاً لله، يسرون بمكانهم، وتقر بهم عيونهم، قيل: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس: (هو الولد إذا رآه يكتب الفقه). {واجعلنا للمتقين إماماً} أي: أئمة يقتدى بنا في الدين، فاكتفى بالواحد؛ لدلالته على الجنس، أو: واجعل كل واحد منا إماماً؛ أي: من أولادنا إماماً. والظاهر: أن صدور هذا الدعاء منهم كان بطريق الانفراد؛ إذ يتعذر اجتماعهم في دعاء واحد. وإنما كانت عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماماً، غير أنه حكيت عبارة الكل بصيغة المتكلم مع الغير؛ قصداً إلى الإيجاز، كقوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51]. وأبقى إماماً على حاله من الانفراد. قيل: وفي الآية دليل على أن الرئاسة في الدين ينبغي أن تُطلب ويُرغب فيها، إذا كان القصد نفع عباد الله دون حظ نفساني. {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة}، جنس، أي: الغرفات، وهي العلالي في الجنة. ووحده بقصد الجنس. {بما صبروا}؛ بصبرهم على مشاق الطاعات، وترك الشهوات، وتحمل المجاهدات، وعلى إذاية أهل الإنكار، وارتكاب الذل والافتقار. {ويُلَقَّون فيها تحيةً وسلاماً} أي: تحييهم الملائكة، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات. أو: يُحيي بعضُهم بعضاً، ويسلمون عليهم، {خالدين فيها}؛ لا يموتون ولا يخرجون، {حَسُنتْ} أي: الغرفة {مستقراً ومُقاماً}؛ موضعَ قرارٍ وإقامة، وهي مقابلة: {ساءت مستقراً ومقاماً}. {قل} يا محمد: {ما يعبأُ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي: ما يصنع بكم ربِّي، وأي فائدة في خلقكم، لولا دعاؤكم إلى الإسلام والتوحيد، أو: لولا عبادتكم له، أي: إنما خلقكم لعبادته؛ كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ فإنما خلق الإنسان لمعرفته وطاعته، وإلا فهو وسائر البهائم سواء. قال المحشي: والظاهر: أنه خطاب لقريش القائلين: {أنسجد لما تأمرنا} أي: لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم واستغاثتكم إياه في الشدائد. ه. وقيل: ما يعبأ: بمغفرة ذنوبكم، ولا هو عنده عظيم، لولا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء، كقوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، قاله الضحاك. ثم قال: فظاهره: أن «ما»: استفهامية، ويحتمل كَوْنُهَا نَافِيَةً. انظر بقية كلامه. وفسّر البخاري الدعاء هنا بالإيمان، أي: ما يبالي بكم ربي لولا إيمانكم المتوقع من بعضكم، {فقد كذبتم} بما جاء به الرسول فتستحقون العقاب، {فسوفَ يكونُ} العذاب الذي أنْتَجَهُ تكذيبكم {لِزاماً}؛ لازماً لكم؛ لا تنفكون عنه، حتى يكبكُم في النار. فالفاء في قوله: {فقد كذَّبتم} استئناف وتعليل لكونهم لا يُعبأ بهم، وإنما أضمر العذاب من غير تقدم ذكرٍ؛ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره، وأنه مما لا تفي العبارة به. وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر، وأنه لُوزِمَ بين القتلى. وفي المشارق: اللزام: الفيصل، وقد كان يوم بدر. ه. والله تعالى أعلم. الإشارة: قوله تعالى: {وإذا مروا بأهل اللغو}، وهم المتكلمون في حس الأكوان، مروا كراماً؛ مكرمين أنفسهم عن الالتفات إلى خوضهم. والذين إذا سمعوا الوعظ والتذكير أنصتوا بقلوبهم وأرواحهم، خلاف ما عليه العامة من التصامم والعمى عنه. {والذين يقولون ربنا..} إلخ، قال القشيري: قرة الروح: حياتها، وإنما تكون كذلك إذا كان بحق الله قائماً. ويقال: قرة العين من كان لطاعة الله معانقاً، ولمخالفة الأمر مفارقاً. ه. قلت: قرة العين تكون في الولد الروحاني، كما تكون في الولد البشري؛ فإن الشيخ إذا رأى تلميذه مُجِدّاً صادقاً في الطلب، حصل له بذلك غاية السرور والطرب، كما هو معلوم عند أرباب الفن. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وَصلَّى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسَلَّمَ تسليماً.
{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)} يقول الحق جل جلاله: {طسم} أي: يا طاهر، يا سيد، يا محمد، أو: أيها الطاهر السيد المجيد. وقال الواحدي: أقسم تعالى بطَوله وسنائه وملكه، والمقسم عليه: {إن نشأ نُنزل...} إلخ. {تلك آيات الكتاب المبين} أي: ما نسرده عليك في هذه السورة وغيرها من الآيات، هي آيات الكتاب، أي: القرآن المبين أي: الظاهر إعجازه وأنه من عند الله على أنه من أبان بمعنى بان أو: المبين للأحكام الشرعية والحِكَم الربانية، أو: الفاصل بين الحق والباطل. وما في الإشارة من معنى البُعد؛ للتنبيه على بُعد منزلة المشار إليه في الفخامة ورفعة القدر. ثم شرع في تسليته بقوله: {لعلك باخعٌ نفسَكَ} أي: قاتل نفسك. قال سَهْلٌ: تهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم وإيمانهم، وقد سَبق مني الحُكم بإيمان المؤمنين وكفر الكافرين، فلا تبديل ولا تغيير. و«لعل»: للإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها؛ حسرة على مافاتك من إسلام قومك {أَلاَّ يكونوا مؤمنين} أي: لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين، {إن نشأ نُنزِّل عليهم من السماء آيةً}، هو تعليل لما قبله من النهي عن التحسر؛ ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته، والمفعول محذوف، أي: إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان، قاهرة لهم عليه، {فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعين}؛ منقادين. والأصل: فظلوا لها خاضعين، فأقمحت الأعناق؛ لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء. وقيل: لمَّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم، كقوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. وقيل المراد بالأعناق: الرؤساء ومقدمو الجماعة، وقيل: الجماعة، من قولهم: جاءنا عنق من الناس، أي: فوج. وقرئ: خاضعة، على الأصل. {وما يأتيهم من ذِكْرٍ من الرحمنِ مُحْدَثٍ إلا كانوا عنه معرضين}، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب؛ لصرف رسوله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم، وقطع رجائه فيهم على الجملة، قال القشيري: أي: ما نُجَدِّد لهم شَرْعاً، أو نرسل رسولاً إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه، وقابلوه بالتكذيب، فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتهم، لا تضح لهم صدقهم، ولكن المقسوم من الخذلان في سابق الحُكْمِ يمنعهم من الإيمان والتصديق. ه. والتعرض لعنوان الرحمة؛ لتغليظ شناعتهم، وتهويل جنايتهم؛ فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح، وعما يأتيهم بموجب الرحمة، لمحض منفعتهم، أشنع وأقبح، أي: ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية أو من طائفة نازلة من القرآن تُذكّرهم أكمل تذكير وتنبهُهم من الغفلة أتم تنبيه، بمقتضى رحمته الواسعة، إلا جددوا إعراضاً عنه؛ على وجه التكذيب والاستهزاء؛ إصراراً على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. {فقد كذَّبوا} بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً مقارناً للاستهزاء، {فسيأتيهم} أي: فسيعلمون {أنباءُ} أي: أخبار {وما كانوا به يستهزئون}، وأنباؤه: ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة، عبّر عنها بالأنباء؛ إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم، وإما لأنهم، بمشاهدتها، يقفون على حقيقة القرآن الكريم، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم، باستماع الأنباء. وفيه تهويل؛ لأن الأنباء لا تُطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير، أي: فسيأتيهم لا محالة مِصداق ما كانوا يستهزئون به، إما في الدنيا، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتُوف، أو يوم القيامة. والله تعالى أعلم. الإشارة: طسم، الطاء تشير إلى طهارة سره- عليه الصلاة والسلام-، والسين تُشير إلى سيادة قدره، والميم إلى مَجَادة أمره، وهذا بداية الشرف ونهايته. أو: الطاء تشير إلى التنزيه للقلب، من حيث هو، والتطهير والسين تشير إلى تحليته بالسر الكبير، والميم تشير إلى تصرفه في الملك والملكوت بإذن العلي الكبير. وهذه بداية السير ونهايته، فيكون حينئذٍ عارفاً بالله، خليفة رسول الله في العودة إلى الله، فإنْ حرص على هداية الخلق فيقال له: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}، فلو شاء ربك لهدى الناس جميعاً، ولا يزالون مختلفين، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}. وبالله التوفيق.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} قلت: الهمزة: للإنكار التوبيخي، والواو: للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أَفعلوا ما فعلوا من الإعراض والتكذيب، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض.. إلخ. و(كم): خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية. يقول الحق جل جلاله: {أوَ لَم يروا} أي: ينظروا {إلى} عجائب {الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم}؛ أي: من كل صنف محمود كثير المنفعة، يأكل منه الناس والأنعام. وتخصيص النبات بالذكر، دون ما عداه من الأصناف؛ لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معاً. ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات؛ نافعها وضارها، ويكون وصف الكل بالكرم؛ للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة، إما وحده، أو بانضمامه إلى غيره، كما نطق به قوله تعالى: {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلاً إلا وفيه حكمة بالغة، وإن غفل عنه الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفة كنهه العاقلون. وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة، وهما «كم» و«كلّ»؛ أنّ كلمة «كلّ» تدل على الإحاطة بأزواج النبات؛ على سبيل التفصيل، و«كم» تدل على أنَّ هذا المحاط متكاثر، مفرط الكثرة، وبه نبّه على كمال قدرته. {إنَّ في ذلك} الإنبات، أو: كل صنف من تلك الأصناف {لآيةً} عظيمة دالة على كمال قدرته، وسعة علمه وحكمته، ونهاية رحمته الموجبة للإيمان، الوازعة عن الكفر والطغيان. {وما كان أكثرُهُم} أي: أكثر قومه- عليه الصلاة والسلام- {مؤمنين} في علم الله تعالى وقضائه، حيث عَلِمَ أنهم سيصرفون عنه، ولا يتدبرون في هذه الآيات العظام. وقال سيبويه: «كان»: صلة، والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين، وهو الأنسب بمقام عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد، مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى. وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم أنهم معذورون فيه بحسب الظاهر؛ لأن التفريق بين القدرة والحكمة، اللتين هما محل التحقيق والتشريع، قد خفي على مهرة العلماء، فضلاً عن غيرهم. فالحكم بزيادة «كان» أقرب؛ كأنه قيل: إن في ذلك لآية باهرة موجبة للإيمان، وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك؛ لغاية عتوهم وعنادهم. ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم؛ لأن منهم من سبق له أنه يؤمن. {وإِنَّ ربك لهو العزيزُ}؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها: الانتقام من هؤلاء، {الرحيمُ}؛ المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم، ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترأوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وفي التعرض لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، من تشريفه والعِدَة الحقيّة بالانتقام من الكفرة مالا يخفى. قاله أبو السعود. الإشارة: أوَ لم يروا إلى أرض النفوس الطيبة، كم أنبتنا فيها من كل صنف من أصناف العلوم الغريبة، والحِكَم العجيبة، بعد أن كانت ميتة بالجهل والغفلة، إنَّ في ذلك لآية ظاهرة على وجود الخصوصية فيها، وعلى كمال من عالجها حتى ظهرت عليها. أو: أوَ لم يروا إلى أرض العبودية، كم أنبتنا فيها من أصناف الآداب المرضية، والمقامات اليقينية، والمكاشفات الوهبية، إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين بهذه الخصوصية عند أربابها، وإن ربك لهو العزيز الرحيم، يُعز من يشاء، ويرحم بها من يشاء. وبالله التوفيق.
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)} يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر يا محمد {إذ نادى ربُّك موسى} أي: وقت ندائه إياه، وذَكِّر قومك بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم؛ زجراً لهم، وتحذيراً من أن يحيق بهم مثل ما حاق بإخوانهم المكذبين. أو: واذكر حاله لتتسلى به وبما عالج مع قومه حيث أرسله وقال له: {أن ائْتِ القوم الظالمين} أو: بأن ائْتِ القومَ الظالمين بالكفر والمعاصي، أو: باستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم. {قومَ فرعون}: عطف بيان، تسجل عليهم بالظلم، ثم فسرهم، وقل لهم: {ألاَ يتقون} الله، ويتركون ما هم عليه من العتو والطغيان. وقرئ بتاء الخطاب؛ على طريقة الالتفات، المنبئ عن زيادة الغضب عليهم، كأنَّ ظلمهم أدى إلى مشافهتهم بذلك. وليس هذا نفس ما ناداه به، بل ما في سورة طه من قوله: {إِنّىِ أَنَاْ رَبُّكَ...} [طه: 12] إلخ، واختصره هنا لمقتضى المقام. {قال} موسى عليه السلام؛ متضرعاً إلى الله عز وجل: {ربِّ إني أخافُ أن يكذِّبون} من أول الأمر، {ويضيق صدري} بتكذيبهم إياي، {ولا ينطلقُ لساني}؛ بأن تغلبني الحمية على ما أرى من المحال، وأسمع من الجدال، أو: تغلبني عقدة لساني، {فأرسلْ إلى هارون} أخي، أي: أرسل جبرلَ إليه، ليكون نبياً معي، أَتَقَوَّى به على تبليغ الرسالة. وكان هارون بمصر حين بُعث موسى بجبل الطور. وليس هذا من التعلل والتوقف في الأمر، وإنما هو استدعاء لما يُعينه على الامتثال، وتمهيد عذره. ثم قال: {ولهم عليّ ذنبٌ} أي: تبعة ذنب بقتل القبطيّ، فحذف المضاف، أو: سمّي تبعة الذنب ذنباً، كما يُسَمَّى جزاء السيئة سيئة. وتسميته ذنباً بحسب زعمهم. {فأخافُ أن يقتلونِ} به؛ قصاصاً. وليس هذا تعللا أيضاً، بل استدفاع للبلية المتوقعة، وخوف من أن يقتل قبل أداء الرسالة، ولذلك وعده بالكلاءة، والدفع عنه بكلمة الردع، وجمع له الاستجابتين معاً بقوله: {قال كلا فاذهبا}؛ لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده بالدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه رسالة أخيه، فأجابه بقوله: {اذهبا}، أي: جعلتُه رسولاً معك {فاذهبا بآياتنا} أي: مع آياتنا، وهو اليد والعصا وغير ذلك، فقوله: {فاذهبا}: عطف على مضمر، يُنبئ عنه الردع، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت ومن استدعيته مصحوباً بآياتنا، فإنها تدفع ما تخافه. {إنّما معكم مستمعون} أي: سامعون ما يقال لك، وما يجري بينكما وبينه، فنظهركما عليه. شبَّه حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة، فسمع ما يجري بينهم، فيمد أولياءه وينصرهم على أعدائهم؛ مبالغة في الوعد بالإعانة، فاستعير الاستماع، الذي هو الإصغاء للسمع، الذي هو العلم بالحروف والأصوات، وهو تعليل؛ للردع عن الخوف، ومزيد تسلية لهما، بضمان كمال الحفظ والنصر، كقوله تعالى: {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46]. {فَأْتِيَا فرعونَ فقولا إِنا رسولُ ربِّ العالمين}، ليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب؛ لأن معنى هذا: الوصولُ إلى المرسل إليه، والذهاب: مطلق التوجه، ولم يُثَنَّ الرسول هنا كما ثناه في سورة طه؛ لأن الرسول يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة، فيكون مصدراً، فَجُعِلَ ثَمَّةَ بمعنى المُرْسَل فثنى، وجعل هنا بمعنى الرسالة، فسوّى في الوصف به الواحد والتثنية والجمع، كما تقول: رجل عدل، ورجلان عدل، ورجال عدل؛ لاتحادهما في شريعة واحدة، كأنهما رسول واحد. قلت: والنكتة في إفراد هذا وتثنية الآخر؛ أن الخطاب في سورة طه توجه أول القصة إليهما معاً بقوله {اذهب أنت وأخوك} فجرى في آخر القصة على ما افتتحت به، وهنا توجه الخطاب في أولها إلى موسى وحده، بقوله: {وإِذا نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين}، فجرى على ما افتتح به القصة من الإفراد. والله تعالى أعلم. {أنْ أرسل معنا بني إسرائيل}، «أن»: مفسرة؛ لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، أي: خَلِّ بني إسرائيل تذهب معنا إلى الشام، وكان مسكنهم بفلسطين منه، قبل انتقالهم مع يعقوب عليه السلام إلى مصر، في زمن يوسف عليه السلام. والله تعالى أعلم. الإشارة: من كان أهلاً للوعظ والتذكير لا ينبغي أن يتأخر عنه خوف التكذيب ولا خوف الإذاية، فإن الله معه بالحفظ والرعاية. نعم؛ إن طلب المُعِينَ فلا بأس، فإن أُبهة الجماعة، في حال الإقبال على من يُعظمهم، أقوى في الإدخال الهيبة والروع في قلوبهم، ونور الجماعة أقوى من نور الواحد. والله تعالى أعلم.
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} يقول الحق جل جلاله: لما أتى موسى وهارونُ فرعونَ وبلَّغا الرسالة، {قال} له: {ألم نُربِّك...} إلخ، رُوي أنهما أتيا بابه فلم يُؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له، لعلنا نضحك منه، فأَذِن، فدخل، فأدى الرسالة، فعرفه فرعونُ، فقال له: {ألم نُربِّك فينا}؛ في حِجْرنا ومنازلنا، {وليداً} أي طفلاً. عبّر عنه بذلك؛ لقُرب عهده بالولادة. وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليه السلام: {إنا رسول رب العالمين}، بنسبته تربيته إليه وليداً. ولذلك تجاهل بقوله: {وما ربُّ العالمين}، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله: {لئن اتخذت إلهاً غيري...} إلخ، {ولبثتَ فينا من عُمُرِكَ سنين} قيل: لبث فيهم ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين، وأقام به عشر سنين، ثم عاد يدعوهم إلى الله- عز وجل- ثلاثين سنة، ثم بقي بعد الغرق خمسين، وقيل: قتل القبطي وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وفرّ منهم على إثر ذلك. والله أعلم. ثم قال له: {وفعلتَ فَعْلَتك التي فعلتَ} يعني: قتل القبطي، بعدما عدد عليه نعمته؛ من تربيته، وتبليغه مبلغ الرجال، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه، أي: قتلت صاحبي، {وأنت من الكافرين} بنعمتي، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي، أو: أنت حينئذٍ ممن تفكر بهم الآن، أي: كنت على ديننا الذي تسميه كفراً، وهذا افتراء منه عليه؛ لأنه معصوم، وكان يعاشرهم بالتقية، وإلا فأين هو عليه السلام من مشاركتهم في الدين. {قال فعلتُها إذاً} أي: إذ ذاك {وأنا من الضالين} أي: من المخطئين؛ لأنه لم يتعمد قتله، بل أراد تأديبه، أو: الذاهلين عما يؤدي إليه الوكز. أو: من الضالين عن النبوة، ولم يأت عن الله في ذلك شيء، فليس عليَّ توبيخ في تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع، وهذا كله لا ينافي النبوة. وكذلك التربية لا تنافي النبوة. {ففررتُ منكم} إلى ربي، متوجهاً إلى مدين {لمّا خِفْتُكم} أن تصيبني بمضرة، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. {فوهب لي ربي حُكماً} أي: حكمة، أو: نبوة وعلماً، فزال عني الجهل والضلالة، {وجعلني من المرسلين}؛ من جملة رسله، {وتلك نعمة تمُنُّها عليَّ أن عَبدتَّ بني إسرائيل} أي: تلك التربية نعمة تمُن بها عليّ ظاهراً، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، وقهرك إياهم، بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك، ولو تركتهم لرباني أبواي. فكأن فرعون في الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليه السلام: أَوَ تلك نعمةٌ تَمُنٌُّها عَلَيَّ؛ استعبادك لهم، ليس ذلك بنعمة، ولا لك فيها عليَّ منة، وتعبيده: تذليلهم واستخدامهم على الدوام. ووحد الضمير في «تمنّها» و«وعبّدتَّ»، وجمعها في «منكم» و«خفتكم»؛ لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملئه المؤتمرين به، وأما الامتنان فمنه وحده. وحين انقطعت حجة فرعون وروغانه عن ذكر رب العالمين، أخذ يستفهم موسى عن الذي ذكر أنه رسول من عنده؛ مكابرة وتجاهلاً وتعامياً، طلباً للرئاسة، كما قال تعالى: {قال فرعونُ وما ربُّ العالمين}، أي: أيُّ شيء رب العالمين، الذي ادعيت أنك رسوله منكراً لأن يكون للعالمين رب غيره، حسبما يعْربُ عنه قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النازعات: 24]، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]. أو: فما صفته، أو حقيقته؟ {قال} موسى: هو {ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما} أي: ما بين الجنسين، {إن كنتم موقنين} أي: إن كنتم موقنين بالأشياء، محققين لها، علمتم ذلك، أو: إن كنتم موقنين شيئاً من الأشياء، فهذا أولى بالإيقان؛ لظهور دليله وإنارة برهانه. {قال} فرعونُ، عند سماع جوابه عليه السلام، خوفاً من تأثيره في قلوبهم، {لِمن حولَه} من أشراف قومه، وكانوا خمسمائة مسورة بالأسورة: {أَلا تستمعون}، أنا أسأله عن الماهية، وهو يجيبني بالخاصية. ولما كانت ما هي الربوبية لا تُدرك ولا تنال حقيقتها، أجابه بما يمكن إدراكه من خواص الماهية. ثم {قال} عليه السلام: {ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين} أي: هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين، أي: وفرعون من جملة المخلوقين فلا يصلح للربوبية، وإنما قال: {ورب آبائكم}؛ لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم. {قال} فرعونُ: {إنّ رَسُولَكُمْ الذي أُرْسِلَ إِليكُمْ لمجنون}؛ حيث يزعم أن في الوجود ألهاً غيري، أو: حيث لا يطابق جوابه سؤالي؛ لأني أسأله عن الحقيقة وهو يجيبني بالخاصية، {قال} موسى عليه السلام: {ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} فتستدلون بما أقول حتى تعرفوا ربكم. وهذا غاية الإرشاد، حيث عمم أولاً بخلق السموات والأرض وما بينهما، ثم خصص من العام أنفسهم وآباءهم؛ لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه، ومن ولد منه، وما شاهد من أحواله، من وقت ميلاده إلى وفاته، ثم خصّص المشرق والمغرب؛ لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبهما في الآخر، على تقدير مستقيم وحساب مستوٍ، من أقوى الدلائل على وحدانية الربوبية، ووجوب وجودها. أو: تقول: لما سأله عن ماهية الربوبية؛ جهلاً؛ فأجابه، بالخاصية، {قال ألا تستمعون} ؟ فعاد موسى إلى مثل قوله، فجنّنه فرعون، زاعماً أنه حائد عن الجواب، فعاد ثالثاً مبيناً أن الواجب الوجود، الفردَ الصمد، لا يدرك بالكُنْهِ، إنما يعرف بالصفات، وما عرفه بالذات إلا خواص الخواص، فالسؤال عن الذات من أمثاله جهل وحمق. ولذلك قال: {إن كنتم تعقلون}، أي: إن كان لكم عقل علمتم أنه لا يمكن أن تعرفوه إلا بهذا الطريق. قال ابن جزيّ: إن قيل: كيف قال أولاُ: {إن كنتم موقنين}، ثم قال آخراً: {إن كنتم تعقلون} ؟ فالجواب: أنه لاَيَنَ أولاً؛ طمعاً في إيمانهم، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله «إن كنتم تعقلون»، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون: {إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون}. ه. ولما تجبر فرعون وبهت {قال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلهاً غيري لأَجعلنَك من المسجونين}، أي: لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه، فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض، بعيدة العمق، فرداً، لا ينظر فيها ولا يسمع، وكان ذلك أشدّ من القتل. ولو قال: لأسجننك، لم يؤد هذا المعنى، وإن كان أخصر. قاله النسفي. الإشارة: التربية لها حق يراعي ويجب شكرها، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية. قال القشيري: لم يجحد موسى حقَّ التربية والإحسانَ إليه في الظاهر، ولكن بَيَّنَ أنه إذا أمر الله بشيءٍ وَجَبَ اتباعُ أمره، وإذا كانت تربية المخلوقين تُوجب حقاً، فتربية الله أولى بأن يعَظِّمَ العبدُ قَدْرَها. ه. فكل من أحسن إلى بشريتك بشيء وجب عليه شكره؛ بالإحسان إليه، ولو بالدعاء، وكل من أحسن إلى روحانيتك بالعلم أو بالمعرفة، وجب عليك خدمته وتعظيمه، وإنكار ذلك بسبب المقت والطرد، والعياذ بالله. وقول فرعون: {وما رب العالمين}: سؤال عن حقيقة الذات، ومعرفة الكنه متعذرة؛ إذ ليس كمثله شيء، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى: {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات في الجملة، ولم تترك منها شيئاً، والإحاطة بالكنه متعذرة، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين تَرَق، مع أن ترقيهم في كشوفات الذات لا ينقطع أبداً، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الباقية. وبالله التوفيق.
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)} قلت: (لو): هنا، ليست امتناعية، بل إغيائية، فلا جواب لها، أي: تفعل بي هذا على كل حال ولو جئتك بشيءٍ مبين. يقول الحق جل جلاله: {قال} موسى عليه السلام لفرعون، لَمَّا هدده بالسجن: {أوَلَوْ}؛ أتفعل ما ذكرت من سجني ولو {جِئتُك بِشَيءٍ مُبين}؛ واضح الدلالة على صدقي، وتوحيد رب العالمين. يريد به المعجزة؛ فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده. والتعبير عنه بالشيء؛ للتهويل. {قال} فرعون: {فَأتِ به إن كُنتَ من الصادقين} فيما قلتَ من الإتيان بالشيء الواضح على صدق دعواك، أو: من الصادقين في دعوى الرسالة. {فألقى عصاهُ فإذا هي ثعبان مبين} أي: ظاهرثعبانيته، لا أنه تخيل بما يشبهه كشأن الشعوذة والسحر. رُوي أنها ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة على فرعون، تقول: يا موسى؛ مرني بما شئت، فيقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا اخذتها، فأخذها، فعادت عصا. {ونزع يده} أي: أخرجها من تحت إبطه، {فإذا هي بيضاءُ للناظرين} أي: بياضاً خارجاً عن العادة، بحيث يجتمع النظارة على النظر إليه؛ لخروجه عن العادة. رُوي أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: هل لك غيرها؟ فأخرج يده، وقال لفرعون: ما هذا؟ قال: يدك، فأدخلها تحت إبطه، ثم نزعها، ولها شعاعٌ يكاد يُغشي الأبصار ويسدّ الأفق. فسبحان القادر على كل شيء. الإشارة: النفوس الفرعونية هي التي تتوقف في الصدق والإيمان على ظهور المعجزة أو الكرامة، وأما النفوس الزكية فلا تحتاج إلى معجزة ولا كرامة، بل يخلق الله فيها الهداية والتصديق بطريقة الخصوصية، من غير توقف على شيء. وبالله التوفيق.
|